في تطور جيولوجي واقتصادي بالغ الأهمية، كشفت صحيفة “ليكونوميست” المغربية في عددها الصادر بتاريخ 4 أبريل 2025 عن اكتشاف مكمن ضخم وغير مسبوق للقصدير بالقرب من مدينة مكناس. يقدر حجم الاحتياطي المكتشف بنحو 39 مليون طن، وهو رقم يمثل قفزة نوعية في تقدير الموارد الطبيعية للمملكة ويضع المغرب في مصاف الدول التي تملك احتياطيات استراتيجية من هذا المعدن الحيوي.
يقع هذا الكنز الجيولوجي الهائل ضمن نطاق مشروع “أشماش” للتعدين، وهو مبادرة طموحة تديرها شركة “أتلانتيك تين ليمتد” الأسترالية المتخصصة في استكشاف وتطوير موارد القصدير. ويُنظر إلى هذا المشروع ليس فقط كمصدر جديد للثروة المعدنية، بل كقوة دافعة محتملة لإحداث تحول جذري في بنية الاقتصاد المغربي حيث من المتوقع أن يؤدي إلى تدفق استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة، وخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في المنطقة والمناطق المرتبطة بها، بالإضافة إلى توسيع مساهمة قطاع المعادن بشكل ملحوظ في الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي تقليل الاعتماد على القطاعات التقليدية.
وتكمن الأهمية الاستراتيجية لهذا الاكتشاف في تجاوزه الأبعاد الاقتصادية المحلية لتشمل الموقع الريادي الذي يمكن أن يحتله المغرب في سوق القصدير العالمي. فالقصدير يُعد من المعادن الأساسية غير الحديدية التي لا غنى عنها في العديد من الصناعات المتقدمة والحديثة.، ويعتبر مكونًا حاسمًا في صناعة الإلكترونيات، حيث يستخدم بشكل أساسي في تصنيع اللحامات الدقيقة للدارات الكهربائية المطبوعة التي تدخل في جميع الأجهزة الإلكترونية تقريبًا. علاوة على ذلك، يلعب القصدير دورًا حيويًا في صناعة تغليف المواد الغذائية نظرًا لخصائصه غير السامة والمقاومة للتآكل، وفي إنتاج سبائك البرونز المستخدمة في تطبيقات متنوعة، وحتى في صناعة أنواع معينة من الزجاج. هذه الاستخدامات المتعددة تجعل من القصدير عنصرًا استراتيجيًا في الاقتصاد الصناعي المعاصر، والطلب عليه يشهد نموًا مطردًا مدفوعًا بالتوسع في الصناعات التكنولوجية والاستهلاكية على مستوى العالم.
يأتي هذا الاكتشاف في وقت بالغ الأهمية، حيث يشهد السوق العالمي للقصدير ديناميكية متزايدة مدفوعة بالطلب المتزايد، خاصة مع التوجه نحو التقنيات النظيفة والطاقة المتجددة التي تعتمد بشكل كبير على الإلكترونيات المتقدمة. هذا السياق العالمي يمنح المغرب فرصة ذهبية ليصبح لاعبًا محوريًا في تلبية احتياجات الصناعات العالمية المتعطشة لهذا المورد الاستراتيجي، مما يعزز من نفوذه الاقتصادي والتجاري على الصعيد الدولي.
من جانبها، أعربت شركة “أتلانتيك تين ليمتد” عن سعادتها بالنتائج الاستثنائية التي تحققت بفضل التقنيات الحديثة والمتطورة التي اعتمدتها في عمليات الاستكشاف والحفر. وأشارت الشركة إلى أن هذه النتائج الإيجابية للغاية شجعتها على توسيع نطاق عمليات التنقيب في المنطقة، مما أسفر عن اكتشاف مناطق إضافية واعدة وغنية بالموارد المعدنية الأخرى المحتملة.
وفي تصريح له، أكد سيمون ميلروي، الرئيس التنفيذي لشركة “أتلانتيك تين ليمتد”، على الأهمية الكبيرة لهذه الاكتشافات، مشيرًا إلى أن “الزيادة المسجلة في حجم الاحتياطيات تعزز بشكل كبير من الجدوى الاقتصادية لمشروعينا الرئيسيين في موقعي أشماش وسمين”. وأضاف أن الشركة تعمل حاليًا على قدم وساق لإصدار تقديرات محدثة وشاملة للاحتياطيات بناءً على آخر التطورات في الدراسات التقنية والتحاليل الجيولوجية، مما سيوفر صورة أكثر دقة لحجم الثروة المعدنية المتاحة.
جدير بالذكر ان هذا الاكتشاف يمثل فرصة استراتيجية حقيقية للمغرب لإعادة رسم خريطة موارده الطبيعية وتنويعها بشكل كبير، وبالتالي تعزيز مكانته كمورد عالمي مهم في صناعة التعدين. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الطموح يتطلب تضافر جهود مختلف الجهات المعنية على المستويات الحكومية والخاصة والأكاديميةو سيكون من الضروري الاستثمار بشكل مكثف في البحث العلمي لتطوير تقنيات استخراج فعالة ومستدامة، بالإضافة إلى تكوين وتأهيل الكفاءات الوطنية المتخصصة في مجال التعدين وعلوم الأرض والهندسة المرتبطة بها.
علاوة على ذلك، سيكون من الأهمية بمكان وضع سياسات حكومية محفزة وجاذبة للاستثمار في قطاع التعدين، مع ضمان وجود إطار تنظيمي واضح وشفاف يحمي حقوق المستثمرين ويضمن في الوقت نفسه استدامة المشروع وحماية البيئة والمجتمعات المحلية من أي آثار سلبية محتملة. كما يجب وضع خطط استراتيجية للتعامل مع التقلبات المحتملة في الأسواق العالمية لأسعار المعادن والتحديات التقنية التي قد تطرأ خلال مراحل الاستخراج والتصنيع.
و على المدى الطويل، يُتوقع أن يسهم هذا المشروع الضخم في تحفيز النمو الاقتصادي المحلي بشكل كبير، وخلق قاعدة صناعية جديدة تعتمد على القيمة المضافة للمعادن المستخرجة، وتوسيع وتنويع قاعدة الصادرات المغربية، مما يعزز بشكل عام قدرة المملكة على بناء اقتصاد أكثر توازنًا وتنوعًا، يقوم على الاستخدام الأمثل لمواردها الطبيعية ويواكب التحولات الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي.
إن اكتشاف مكمن القصدير في مكناس ليس مجرد خبر اقتصادي عابر، بل هو حدث محوري يحمل في طياته إمكانات هائلة لتشكيل مستقبل اقتصادي أكثر إشراقا.