الكاتب محسن الأكرمين
كلنا في حاجة إلى مدينة تسع الجميع رأفة وبلا مناوشات جانبية أو خرجات حارقة تلحق العباد والأرض. نحتاج إلى مدينة نصرخ عندها بالصوت العالي والمتواضع لزاما. نحتاج طبعا إلى ممثلين سياسيين من طينة الأبطال الزعماء في الأزمات والمواقف السديدة. نحتاج إلى مجتمع مدني متطور وناقد ومبتكر للحلول، مجتمع مدني ليس بالطيع ولا بالمنافق الشديد في مطالب الترافع عن المدينة.
نحتاج إلى مدينة نتفق بأنها الأم ومنها الحياة تبدأ، ولا نجافيها مهما كان خبزها حافيا (وفطيرا)، ولا ننتقص من قيمتها المعيارية التاريخية مهما اختلفنا سياسيا أو ثقافيا أو إثنيا. نحتاج إلى مدينة تنال ساكنتها النجاح في كاستينغ التنمية التفاعلية وقسط العيش الكريم. نحتاج إلى مدينة تضم اختلافاتنا بتذويب الجليد الجارح والماكر. نحتاج إلى مدينة لا ينال منا الإعياء من الرأفة بمواردها وبناسها وبموطن وجه عروس الفريد في الكون، لا ينال منا الإعياء في ممارسة المعاملة الفضلى لناسها، والسجود على تربتها صلاة بالإيمان القوي أنها المنشأ والمرجع. نحتاج جميعا إلى مدينة نعيش فيها وبدون مزايدات ولا إقصاء في الهويات المشتركة. نحتاج جميعا إلى مدينة نؤمن فيها بالمؤسسات الدستورية لا بالوجوه المتلبدة و المتحورة، مدينة لا تحمل سوء نية أحاديث ألوان عقود الازدياد ، بل صناعة العيش المشترك، وغايات العيش السعيد. من هنا، بئس معادلة التفاضل والتمييز بمرجعة الولادة !!!.
قد نبحث عن هذه المدينة بمعايير لا تساوي حتما المدن المثالية الفلسفية، ولا حتى في تلك المدينة الفاضلة التي ينال ناسها كل أسباب الراحة والسعادة الأفلاطونية بالحظ والخير. لكنا حقا، نبحث عن هذه المدينة التي لا نحتسبها من مدن الخرافة الطوباوية، ولا من عجائب تاريخ الدنيا التي وقف التدوين عندها في الماضي فقط (كانت…)، بل مدينة تتحرك نحو الأمام بالتنمية والاستثمار المنتج لفرص الشغل، والترقي التصاعدي بدل التهليل للاستثمار الاستهلاكي والرفاهة الرخوة.
قد نكون حقا نبحث عن مدينة افتراضية في أحلامنا، وفي تطلعات المفكرين المنظرين بالمعيارية. قد نكون حقا نبحث عنها في برامج الأحزاب السياسية، وبرامج عمل مجلس الجماعة. قد نكون حقا نبحث عن مدينة تحتفي بالإنسان أولا، وتجعله عنصرا صانعا للتغييرات المفاجئة ولو بمعادلة البناء (المدني) التصاعدي. قد نكون حقا نبحث عن مدينة تكون مرجعا أمينا في توزيع عوائد أثر مشروعات الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالتساوي. قد نكون حقا نبحث عن مدينة لا تُنتقد بطريقة لاذعة، ولا تُجرح بالشفط الدامي على ممرات تاريخ نكبتها بالتعديل الفاضح. نبحث عن مدينة تقوم على الاختلاف المنتج لا إحباط الطواحين الهوائية، مدينة لا عنوان عندها للسخرية مهما كانت الدلالة الوصفية قصدية أو كناية.
نحتاج إلى مدينة تؤمن بالرأي المقدس، وتنأى بعدا عن كل استخفاف يدنس الأرض والفكر. نحتاج إلى مدينة نكتشف فيها السعادة لا المعيقات المتكتلة بالحواجز ومخفضات سرعة التنمية. نحتاج إلى مدينة لا تحمل الهوامش القصية في الهشاشة والتصنيف والتوزيع، مدينة تعرف الحياة الجماعية المليئة بوفرة التآزر والتضامن، مدينة تفيض أرضها بالثروات البنانية لا الفوضوية.
نحتاج إلى مدينة يفكر فيها السياسي بمنطق التغيير لا الهروب إلى أمكنة الخروقات المتراكمة بلا تعيين ولا مساءلة قضائية للفساد. نحتاج إلى مدينة لن يكون فيها السياسي مثل الحكم يحصي الأخطاء ويصفر فقط على الخشونة بأوراق الإنذارات الحمراء بلا محاسبة بعدية ولا مراقبة سبقية. نحتاج إلى مدينة من طينة المسؤول السياسي (الحاكم الحكيم) الذي يناقش الاستراتيجيات التنموية، ولا يعتاد على تقليم أظافر الأصوات المناوئة. نحتاج إلى مدينة الحق والأيادي النظيفة والألسن الرزينة الحسيبة الرقيبة، نحتاج فقط إلى مكناس بشموليتها وكل من ضمه العيش تحت سمائها، وأكل من غلتها وشرب من مائها.